عادل حمودة يكتب : لماذا ركعت مصر؟

يبيح الدستور الأمريكى لرئيس الولايات المتحدة إعلان حالة الحرب واستخدام القوة العسكرية المفرطة لإنقاذ مواطن واحد من شعبه أخذوه رهينة فى دولة أخرى ولو كانت العلاقات معها حسنة ومؤثرة.



وتساهم حكومة البيت الأبيض فى تمويل الأفلام السينمائية التى تمجد أبطال العضلات الذين ينقذون أسرى أمريكيين فى سجون بلاد متوحشة.. أو فى منظمة إرهابية.. أو على متن طائرة مخطوفة.. على طريقة رامبو.



وهناك لجنة متخصصة تحت سلطة مستشار الأمن القومى عليها تحديد حالة سجناء بلادها فى الخارج.. هل هم مذنبون أم مظلومون؟.. هل هم مجرمون أم ضحايا؟.. وحسب الإجابة يكون قرار التدخل للإنقاذ.. تكليف محام للدفاع.. أو تخطيط جنرال للتدخل.



ومنذ اللحظة الأولى التى ضموا فيها أمريكيين إلى قضية التمويل الخارجى لمنظمات المجتمع المدنى فى مصر.. أجمعت هذه اللجنة على براءة المتهمين وحثت كل المؤسسات والشخصيات فى البلاد على التدخل لإنقاذهم باستخدام كل الوسائل الدبلوماسية والشخصية والمخابراتية والعسكرية.



ووصف التقرير الأول للجنة المتهمين بأنهم رهائن «محرومون من حريتهم ويخشى على حياتهم».. ولا يهدئ من خطورة الموقف أنهم تحت حماية قوات المارينز وراء تحصينات السفارة الأمريكية فى جاردن سيتى بالقاهرة.



حمل التقرير اسما كوديا هو تاباز (2).. ليوحى بتكرار عملية تاباز (1) التى حاولت فيها قوات الانتشار السريع والفرقة (82) المحمولة جوا إنقاذ رهائن السفارة الأمريكية فى طهران بعد الثورة الخومينية.. وما يلفت النظر أن مصر سهلت للطائرات الأمريكية الإقلاع من مطاراتها العسكرية.. وإن لم تشاركها فشل العملية بعد تحطمها فى الصحراء الإيرانية.. وكان هذا الفشل سببا فى سقوط جيمى كارتر فى الانتخابات الرئاسية رغم تنفيذه اتفاقية كامب ديفيد.



وما هو مؤكد أن الخيار العسكرى فرض نفسه «لتحرير رهائن قضية منظمات المجتمع المدنى» حسب وصف التقرير الذى رفع إلى مستشار الأمن القومى.. وإن تراجع قرار اللجوء للقوة مفسحا الطريق أمام «الضغوط» السياسية والاقتصادية التى مارستها كل المنظمات والمؤسسات الأمريكية بلا استثناء.. ومنها حرمان الجيش المصرى من قطع غيار أسلحته ولو كان مستعدا لدفع ثمنها من جيبه.. ومنها منع صندوق النقد الدولى من منح مصر ما تطلب من قروض.



بل.. إن واشنطن طلبت من الرياض التلكؤ فى برنامج مساعدات مصر.. وهو بطبيعته برنامج غير سمين.. والدليل على صحة ذلك.. أن السعودية قدمت لمصر 3.75 مليار دولار فى نفس اليوم الذى سمحت فيه سلطات مطار القاهرة بسفر الأمريكيين والأوروبيين المتهمين فى القضية.. يوم الخميس قبل الماضى.. وأيضا أبدت السعودية استعدادها للبدء فورا فى إنشاء الجسر البحرى الذى يربط بينها وبين مصر عند شرم الشيخ.. ووافقت على تحمل التكاليف وحدها.



والسعودية بما فعلت لم تقدم فقط خدمة عاجلة للولايات المتحدة.. وإنما قدمتها أيضا لنفسها ولغيرها من الدول الخليجية التى تورطت فى قضية التمويل الأجنبى.. وكان الجزء الثانى من المحاكمات سيضم شخصيات مهمة هناك.. قدمت مئات الملايين للتنظيمات الإسلامية والسلفية.



وحسب «فورن بوليسى» فإن هناك «100» شخصية أمريكية مؤثرة مارست ضغوطا على مصر.. وصلت إلى حد التهديدات.. الجنرال مارتن ديمبسى، رئيس هيئة الأركان المشتركة والرجل الذى فى يده وضع خطط الحرب والغزو والخطف.. هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية التى حددت بحسم موعد سفر الأمريكيين.. واختارت أن يكون التوقيت فى وضح النهار.. وليس بعد هبوط الظلام كما اقترحت على استحياء القاهرة.. وفيكتور نولاند المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية التى أعلنت بنفسها الموعد.. وطلبت من الصحفيين أن يشهدوا لحظة انتصار «العزيمة» الأمريكية.. ونصحت المتهمين بأن يرفعوا أيديهم بعلامات النصر.. ولا مانع من أن يخرجوا ألسنتهم للكاميرات المصرية.



أما أبرز أعضاء مجلس الشيوخ بالكونجرس الذين لعبوا دورا مباشرا فى العملية فكانوا جون ماكين وليندسى جراهام وجون هوفمن وريتشارد بلومنتال.. وقد كشفوا فى البيان الذى أصدروه «الدور البناء الذى قامت به جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسى» (الحرية والعدالة).



لكن.. الأخطر.. أن جنرالات من البنتاجون وضباط عمليات من وكالة المخابرات المركزية وخبراء تنصت من وكالة الأمن القومى وضعوا ثلاث خطط لخطف الرهائن من فوق سطح السفارة الأمريكية فى القاهرة.. بواسطة حبال وشباك طائرات هليكوبتر متخصصة فى إنقاذ الرهائن.. تحميها مقاتلات تخترق السماء المصرية دون استئذان.. وبأمر البيت الأبيض وضعت كل التليفونات المهمة فى مصر تحت المراقبة.. خلال فترة التنفيذ.



وحسب «فورن بوليسى» أيضا فإن المسئولين الأمريكيين أبلغوا نظراءهم المصريين بما سيفعلونه فى جرأة تقترب من الوقاحة.. دون احترام لقواعد السيادة.. ودون مراعاة للعلاقات الاستراتيجية القوية بين البلدين.. ويبدو أن ذلك كان سببا مباشرا فى تراجع الموقف الرسمى المصرى.. من «أننا لن نركع» إلى «أننا ننبطح».



والحقيقة أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حاول تجميل وجهه السياسى بمكياج قضية التمويل الأجنبى التى فتحها بعد فشله المتتالى فى إدارة شئون البلاد.. لكنه.. جاء يكحلها فأعماها.. وحاول تجميلها فشوهها.



لقد سبق أن لعب نظام مبارك بهذه الورقة.. تاركا الإعلام يسب ويلعن.. يكشف ويفضح.. يتهم ويهاجم.. وأحيانا كانت مباحث أمن الدولة تتدخل لاعتقال ناشط حقوقى مثل حافظ أبو سعدة.. ثم سرعان ما تفرج عنه استجابة لضغوط.. فيما يعرف بأسلوب «شد الودن».. دون توريط القضاء فيما لا يستطيع التراجع عنه.. كما حدث مؤخرا.



كان من الممكن -علاجا لما حدث- أن يصدر بيان من المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو من رئاسة الحكومة ليكشف حجم الضغوط والتهديدات التى تعرضت لها مصر.. لتبرير قرار سفر المتهمين الأجانب فى القضية.. والتبرير هنا جائز.. مصلحة الدولة العليا التى تفرض التراجع أحيانا.. ولا تتعارض هذه المصلحة العليا مع استقلال القضاء.. فكل دول العالم بلا استثناء تقبل بما يسمى بالصفقات السياسية.. حيث يجرى مثلا تبادل الجواسيس بأشخاص ومصالح ومكاسب أهم وأفيد من وجودهم فى السجون قبل وبعد التحقيق معهم.



كان من السهل معالجة القضية بجرأة وشجاعة وبساطة بعيدا عن القضاء.. لكن.. المسئولين الكبار اعتادوا على التدخل فى أعمال القضاء.. وأيضا قبول قضاة من أجيال مختلفة لذلك الأمر.. جعل المسئولين الكبار يغسلون أيديهم من القضية ويغرزون القضاء فيها.



إن التدخل فى أعمال القضاء كان من أهم سمات حكم مبارك.. خاصة فى توجيه القضايا السياسية.. وقضايا الرأى العام.. وتحديد قضاة يفصلون الأحكام على هوى السلطة التنفيذية.



لقد كان نظام مبارك غالبا ما يضع وزيرى العدل والداخلية.. الأول لتوجيه الأحكام.. والثانى لتنفيذها.. ولم ينج من ذلك سوى قلة من وزراء هذه العينات.



لكن.. لم يكن أحد ممن يعرفون ذلك يجرؤ على البوح به.. أو الكشف عنه.. وإلا اتهم بإهانة القضاء.. وربما وجد نفسه متهما بإهانة السلطة القضائية أمام قاض ممن يسمون.. «قضاة التليفون».. أى الذين يتلقون الأحكام بالتليفون.. من وزير العدل أو من خلافه.



إن الحسنة الوحيدة للمأساة الأخيرة التى كشفتها فضيحة قضية التمويل الأجنبى هى إثبات أن القضاء يتعرض لضغوط من سلطات وشخصيات من خارجه وداخله.. وليست المشكلة فى استقلال القاضى وإنما فى ضميره.. فكل قوانين الدنيا لن تقنع قاضيا واحدا خاضعا وخانعا بأنه مستقل.. وكل ضغوط السلطة ومغرياتها لن تجبر قاضيا مستقلا على الخضوع والخنوع .



على أنه لو كانت السلطة العسكرية التى تسببت ــ دون مبرر ــ فى الأزمة مسئولة قيراطا عن سعيها للتدخل فى قرار رئيس الدائرة التى تنظر القضية المستشار محمد محمود شكرى.. فإن رئيس محكمة الاستئناف الذى تولى الوساطة مسئول أربعة وعشرين قيراطا... إذا كان ما نسب إليه صحيحا.



فهو قاض كبير.. من بين أقدم ثلاثة مستشارين فى مصر.. وقد تولى رئاسة لجنة الانتخابات البرلمانية.. وسيكون عضوا فى لجنة الانتخابات الرئاسية.. كما أنه ـ حسب ما ذكر نقيب المحامين سامح عاشور ــ لم يقدم القضية أمام دائرتها الطبيعية فى قصر النيل أو عابدين وإنما وضعها فى عين شمس.. وكأن هناك نية مبيتة للتدخل لولا رفض رئيس الدائرة.. وإن كان السؤال لماذا هذه الدائرة بالذات؟.. كما ينسب إليه أنه شكَّل دائرة من مستشارى إدارة المتابعة الخاضعة له.. ثم راح يبحث عن دائرة تلعب دور المحلل وتقبل القضية التى أصبحت قضية سيئة السمعة.. تفتت.. وتفسخت.. ولم يعد لها معنى.. فكيف يقبل قاضٍ يتولاها تهريب المتهمين الأجانب فيها.. ويحكم فى الوقت نفسه على المتهمين المصريين.. ومن ثم فإن هناك من يتوقع أن تؤجل القضية إلى أجل غير مسمى حتى تصبح نسيا منسيا.



ومن الحسنات الأخرى أن القضاء انتفض ليحاسب نفسه بنفسه.. وليصحح أخطاءه بيده.. فكانت استقالة أحد قضاة التحقيق فى القضية.. وكانت بلاغات العشرات من القضاة لكشف حقيقة ما حدث.. وتحديد مسئولية المستشار عبدالمعز إبراهيم.. واتهامه بالتدخل فى عمل القاضى.. وهى جريمة عقوبتها السجن.. لكن.. المثير للدهشة أن الذين ورطوه فيما فعل سمحوا له بالسفر إلى كينيا على رأس وفد رسمى.. وكأنهم يخرجون ألسنتهم لنا جميعا.. أو كأنهم يكافئونه على الخدمة التى قدمها.. أو كأنهم يطمئنونه بأن لا شىء سيحدث له.



لكن.. ما أثار دهشتى أن يقول وزير العدل إنه عرف بسفر الأمريكيين من شريط الأخبار فى التليفزيون.. فهو المسئول القضائى الذى كلف محققين من عنده للتعامل مع القضية.. وهو أيضا ما تكرر مع فايزة أبوالنجا الوزيرة التى فجرت القضية والتى عرفت بسفر الأمريكيين من الصحف.. وكأننا أمام حكومة «آخر من يعرف».. وهو ما لا نصدقه.. ولا نقبله.



على أن الأهم هو أن القضية أكبر وأخطر مما نتصور فهى تتجاوز تهريب متهمين أجانب لأسباب سياسية إلى كيفية طمأنة الناس على أن القضاة الذين يقفون أمامهم لم يتعرضوا لضغوط ما حكومية أو مالية أو شخصية أو عقائدية أو سياسية ؟.. هذا هو السؤال الذى سيفشل الجميع حاليا فى تقديم إجابة شافية وافية كافية عليه!